الشيطان
الشیطان... ھذا المعروف المجھول ، الظاھر المخفي ، البسیط المعقد المخیف..تراه - من
حیث لا تراه- -في لحظة عري وھنیھة فسق ، وتسمعھ في دقة طبل أو رنة وتر أو ترنیمة
مزمار، وتلتمسھ في ضحكة خلیعة أو بسمة صفراء تضمر الكثیر من الشر والخبث ...
ھذا الشیطان تجاھد نفسك حتى تجتنبھ فتسقط صاغرا في حبائلھ ، وتناضل حتى یغیب عن
مجال عیشك ویبعد عن نطاق تصرفك فإذا بھ متمكن من زبد تفكیرك یصنع بھ ما شاء
ویكیف فیھ ما یشاء...
ھذا الشیطان... ظل ، منذ أن نزل بھ مكر الله فغوى وتمرد ، سؤالا في حیاة الإنسان ،
واستفھاما لا یختفي إلا لیظھر ویقوم من جدید . فمن ھو ھذا المخلوق الناري الھویة؟ وأین
مقره؟ ومن جنده وقبیلھ؟ وما شكلھ وما أسلوب إغوائھ؟
إن مبدأ الفھم المبھم الذي لا یعتمد إلا على ظاھر الظواھر لا یبین ما ھو مخفي ، وإنما ینمي
ویطور الملموسات والمحسوسات ، لن یجدي شیئا في طریق تحصیل فھم صحیح خال من
الخطأ والخلط والظن . لأن ھذا المبدأ لا یتعرض لفھم ما ھو غیبي خارج عن نطاق قوى
حواس الرؤیة والسمع والشم والذوق واللمس ، ولأن الفھم الصحیح مرتبط في جوھره
بالجواھر لا بالظواھر، ولذلك فظاھر الكون یعطي غیر ظاھر فھم الكون . أما جوھر الفھم
فبعید عن المنال إلا في حالة الانطلاق من أرضیة ھي الإیمان بالغیب ، والاعتراف بالعلم
الدیني أو بعبارة أوضح ، العلوم الدینیة ، لأن الأمر في ھذه الحالة سیجعل الباحث ولا یعلم
لھ سلاحا ، ولا یجد لمحاربتھ سوى وسیلة واحدة قوامھا الاستعاذة منھ ومحاربة النفي في
جمیع ما نھیت عنھ ھذه الوسیلة من الخطورة بمكان لأنھا إذا اتبعت دون تحكیم للعلم الدیني
فإن الشیطان یجد منھا باستمرار منفذا إلى التضلیل فیضل الباحث عن الحق على حیث یعتقد
صواب سبیلھ ، ویصبح محاربا للحق بدلا من أن یحارب الباطل ، ویكون خلیلا لإبلیس
وتابعا لھ لا یخرج عن طاعتھ وھو یظن نفسھ على ھدى . الحكمة الأولى – إذن – ھي
البحث عن العلم حتى یكون الدین أحكم سلاح مظھر لحقیقة العدو المبین .
إن الشیطان لم یحدث أن غره احد فأمره بعدم السجود لآدم حثا لھ على الخروج على الأمر
الإلھي ، فلا یعقل أن یكون ھناك شخص یستطیع أن یكسب قوة وحیلة فوق قوى وحیل
الشیطان حتى یملي لھ بذلك . وأن الناس لا یفتئوا یتساءلون عن الجان والشیاطین دون أن
یجیب على أسئلتھم كاھن أو فیلسوف أو منجم ، ودون أن یعثر أحد منھم على اثر لشخص أو
أشخاص یرون الشیطان من حیث لا یراھم ، ویشاركونھ فضلا عن ذلك في أموالھ وأولاده
فیعدھم غرورا .
إن كل الكتب المنزلة جاءت تنص على أن للإنسان عدوا مبینا ھو الشیطان ، وكل الكتب
التي وضعھا من لا یؤمنون بالدین لا تشیر إلى أي شيء من ھذا القبیل . حتى ((علماء النفس) )
لم یذكر أحد منھم أن ھناك عدوا لھ علاقة بنفس الإنسان ، التي لھا بدورھا قابلیة تلقي م ا
یملیھ علیھا وما یزینھ لھا من وسائل الھلاك في قوالب من الحكمة .
إن الإنسان اتفق بدون استثناء على محاربة جمیع أشكال الاستعمال ، حتى المستعمرون
أنفسھم أقروا ذلك ، ولكن ھذا الإنسان لم یفكر أبدا في جھد جماعي لمحاربة أول مستعمر
استوطن معاقل النفس ومجالاتھا الشاسعة ، وانكب على إشاعة الفساد وإلحاق الخراب بم ا
یحیط بھا من عوالم ومعالم ، لمحاربة ھذا المستعمر الذي لا تأخذه في الله لائمة حین یدخل
جمیع البیوت من أبوابھا بدون استئذان ، وحین یحشر نفسھ تحت الفرشة وفوق الأسرة وبین
الأضلع ، فلا یترك متاعا أو ولدا أو مالا إلا وضع علیھ خاتمھ وشارك صاحبھ فیھ دون علم
أو مشورة .
إننا ھنا أمام أول من لم یسجن ولم یعذب ولم یحاكم بتنفیذ بعذاب ، وإنما أمھل على یوم
موعود ، فقرر مادام الخسران آت ولا مرد لھ أن یكون علیھ وعلى من یسكن ھذا الكوكب
من إنس وجان بلا استثناء ، وأن من نسي ھذا أو یتناساه لا یمكن إلا أن یكون إبلیس قد
أخرسھ ووضع الختم على فمھ وقلبھ وعقلھ انطلاقا من نفسھ وھواه ، فغره بالجاه والملك
والسلطان والخلود ، أو مناه بالفقر والخوف فأوقعھ بھا جمیعا في أحضان الرذیلة والكفر .
ولیس كل الكفر جلیا واضحا وإنما كثیر منھ لا یكاد حاملھ یستشعر أثره في نفسھ ، ولا یدري
عواقبھ في حالھ وترحالھ .
إننا نعلم ھذا العدو بدأ أول ما بدأ برفض السجود لآدم لاعتقاده أنھ أشرف أصلا من آدم
علیھ السلام وأكرم منزلة منھ ثم انتقل من رفضھ إلى مجال العمل فأغوى آدم الفطري الجبلة
فدلھ على الشجرة ومناه بالخلد وبالملك الذي لا یبلى ، حتى إذا قاربھا وزوجھ ظھرت لھم ا
سوءاتھما ، ووجدا نفسھما وقد نزلا من مرتبة ساكني جنان الخلد وعدا بألا یجوعا فیھ ولا
یشقیا . فلماذا انفرد بھما الشیطان على الأرض ألم یجد مدخلا جدیدا إلى عقلھما . فقد كان ا
منشغلین بتوبتھما متطلعین إلى رحمة الغفور الرحیم ، فانتقل على أحد أبنائھما فغرر بھ –
على شبابھ المشتعل – حتى إذا قتل أخاه ، أخذه وھو في أوج ندمھ وحیرتھ وارتباكھ ، فألقى
في روعھ أن النار التي التھمت قربان أخیھ القتیل ھي الله ، وأنھا غاضبة علیھ إذ لم تتقبل
قربانھ ، فیجب علیھ لذلك أن یسترضیھا ویتوجھ إلیھا بالتبتل والعبادة . ولم یقف عند ھذا الحد
إذ وجد أن رأس الفتى القاتل یعج بأفكار وأمان ترسبت عن خطأ أبیھ آدم تتصل بالجاه
والخلود ، ولما لم یجد على الأرض ما یستبدل بھ الشجرة المحظورة في الجنة ، فقد أراه
شجرة أخرى من نوع آخر، وأوھمھ أن فیھا سر الجاه والمال والبقاء الخالد ، فانشغل بھ ا
الفتى ، وكانت ھذه الشجرة الجدیدة ھي السحر. ولما كان السحر یعطي قدرات تشبھ
المعجزات ، ویجعل الخلق یلتفتون حول صاحبھا یخدمونھ ویقدمون لھ فروض الطاعة
والتبجیل فقد اتخذ فقد اتخذ منھ ابن آدم(القاتل) مذھبا ، ووسیلة لتحقیق رغائبھ وإرواء
تعطشھ إلى الاقتناء والتملك ، ثم صار السحر بعد ذلك سبیلا على التغییر والقلب وإلى
الإلحاد والشرك المقیمین . فكان السحر لذلك حتمي الظھور(تنفیذا لأمر الله) في تلك المرحلة
من عمر بني آدم . وكان سحرا قویا حقا في غیاب أي تفكیر سلیم یضاھیھ قوة وفعالیة .
كان ذلك أول عھد ، وأول میثاق یبرم بین ابن آدم والشیطان ، وقد أینع ووفرت ثماره ودنت
وتدلت إلى متناول ید كل طالب راغب في الجاه والسیطرة والكسب الحرام والقوة . ولم ا
كانت طبیعة أي شيء جدید مشترك أن یبدأ قویا فاعلا فقد كان ذلك المیثاق من المتانة
بمكان ، وكانت نتائجھ من القوة ما جعلھا تملأ آفاق عالم الفكر والتطور والخیال مما حولھ ا
إلى معقل صاخب لكل ما ھو بعید عن الدین والجادة .
إن السؤال المطروح الآن ھو ماھیة ھویة ھذا الشیطان؟ وماھي تجلیاتھ؟ وھل یمكن حصره
في شكل أو ھیئة أو أسلوب عمل معین فیسھل اجتنابھ؟
إن الإنسان عندما یرفض الإیمان والتسلیم بالغیب ، ویمتنع بالتالي عن السجود لمن خلقھ ،
فإنھ یكون كإبلیس حینما امتنع ھو عن السجود لآدم ، بل أعلى مرتبة في العصیان ، لأن الذي
طولب الإنسان بالسجود لھ ھو الخالق سبحانھ ولا مجال ھنا للمقارنة .
إن الإنسان إذن یبحث عن إبلیس وھو یمثل في حالة عصیانھ قوة تستطیع أن تخضع كل
الأبالسة وتجعلھم خداما یعملون بإشارة الید والبنان وإن معنى ھذا أن إبلیس لافائدة یرجوھ ا
من ظھوره للعیان ، بعد أن ملك القدرة على جعلھم من جنده ، بل یلبسون شخصیتھ ویقومون
مقامھ . وقد صدق في ھذا المقام شیخ علم سألوه ذات مرة عن الشیطان إن كان موجودا ،
فقال لمن سألوه: ((إنني أرجو أن تسألوا عن الإنسان لأني لا أراكم سوى شياطين )) .
وقال حكیم آخر :((إني لأرى عبادا تكفي رؤيتھم وھم في خوضھم وانحرافھم وفعلھم السوء ليستغني
المرء عن طلب رؤية إبليس نفسه ، وإني لأعجب إذ أسمعھم يبحثون عنه )) .
إن السائل عن جنود إبلیس یجد الجواب في آیات الله وفي علوم الدین المتفرعة عنھا . فالقرآن
الكریم ینص على أن الشیطان عدو مبین ، وأنھ یوسوس للإنسان ، وعلى أن الوسوسة تأتي
من الجنة والناس . فالجنة والناس إذن ھم جنود الشیطان وأدواتھ ، فكأن للشیطان كتابا أثبت
فیھ سلطانھ ولا یزال یفعل ، وقد جعل من ألسنة الناس أقلاما لھ ، ومن دمائھم المراقة إثم ا
وعدوانا مدادا لغوایاتھ ، ومن ضمن مقتضیات ھذا الكتاب أن یصر على الشر ینال أقوى م ا
في الشر، ومن یھوى الخبث یضحى مصیبا للسوء الذي في الخبث ، وھذا مطابق لما في
القرآن الكریم ، إذ الشیطان لا یخرج عن تعالیم كتب الله منذ رفض السجود لآدم . فھو یخاف
الله ولكن، یدفع ابن آدم إلى عدم إقرار ھذا الخوف وعدم الالتزام بمقتضیاتھ. ألیس ھو القائل
غدا للإنسان الكافر ((إني بريء منك وما ظلمتك وما أغویتك وإنما أغویت نفسك وظلمتھا بم ا
تحملھ من إصرار على الكفر والإثم )) ؟
إن كثیرا من الناس لا یجدون مندوحة من إنكار وجود الشیطان لأنھ یسكنھم ، وبھذ ا
الجحود یجد الشیطان السبیل لیدافع عن نفسھ بأفواھھم .
إن الفرق بین النفس والشیطان صعب إدراكھ والتفریق بینھما صعب تحقیقھ. غیر أن
الإنسان یستطیع إذا أوفى عبودیتھ حقھا، وأوفى للدین بالتزاماتھ ، فإنھ سیكون بذلك قد كرس
إنسانیتھ . وبھذه الإنسانیة الصافیة الخالصة المنعمة في كنف عبودیة الخالق یظھر فقط الفرق
بین النفس والشیطان ، لكن لیس في وسع أي إنسان ، وأیة نفس ، إلا أن تكون النفس
الراضیة المرضیة ، وذاك الإنسان المؤمن المؤمَّن على نفسھ من ھواه . وعلى قلبھ من نفسھ.
وعلى عقلھ من میل قلبھ .
إن إثبات الإنسان حقیقة كونھ إنسانا(وھذا لا یتم إلا بالعودة إلى مرتبة الخلق الأول التي
قال عنھا الله سبحانھ ((في أحسن تقویم)) ھو السبیل إلى إظھار وإدراك ھذا الفرق بین النفس
والشیطان . وما عدا ذلك فلن یتبین فرق البتة بین الاثنین ، بل سیظل الموسوس ھو
الموسوس لھ ، وسیستمر القاتل ھو المقتول في آن واحد لأنھ قتل إنسانیتھ . ویبقى الإنسان
عدو نفسھ . أي شیطانا بمعنى الكلمة .
إن المرء ھنا كأنھ أمام مثلث تكویني یقف الإنسان عند أحد زوایاه الثلاثة ، وتقف عند
الزاویة الثالثة ، ویستوي الشیطان عند رأسھ الثالث . إنھ السم الباطني الذي یرمز إلى
الإنسان في حالة امتثالھ لھوى نفسھ الأمارة بالسوء التي ینزعھا الشیطان فلا یعود ھناك فرق
أو تمییز بین زوایا المثلث ومكوناتھ .
إن الإنسان – في كثیر من الحالات والأشخاص – یسب خالقھ ویتمرد علیھ ، وبتمرده ذاك
لن یبلغ شیئا ، بینما الشیطان لا یسب الخالق أبدا ، بل یھتز خوفا منھ ویحس الصغر المتناھي
أمام عظمتھ ، رغم أنھ یأمر بالفحشاء والمنكر، ولذلك فقد لعنھ الله حین أنزلھ إلى الأرض
بینما لم تلحق بالإنسان اللعنة إلا بعد إقراره النھج الذي خطھ الشیطان لھ ، وبعد أن نزع عن
نفسھ وقلبھ الخوف من الله سبحانھ وتعالى ، واستبدلھ بالخوف من مخالفة أوامر الشیطان .
إن إبلیس لم یقتل یوما أحدا من البشر، وما كان لھ أن یفعل حتى یظل على عھده إلى یوم
القیامة ، ولكنھ أمرھم بنزغ بینھم فاقتتلوا ، وظل ھو بریئا من دمائھم لأنھم استجابوا من تلقاء
أنفسھم عندما دعاھم ، فكأن براءة إبلیس تھمة كبرى موجھة إلیھ . إنھ من العدل ھو نفسھ
بحیث لو حكمناه لقضى بالعدل وعذب الكافر حتى ولو كان بریئا . وھذه الأحكام لذلك راجعة
لله الذي جعل الشیاطین(كما قال في كتابھ العزیز) تؤز الكافرین أزا. إن الشیطان مثلا لا
یضرب أحدا وإنما یوقع لھ في نفسھ ، فیجلس ھذا إلى نفسھ كئیبا حزینا متألما وقد أخذ الیأس
بخناقھ ، فتلك وسیلة تعذیب جعلھا الله لعباده المنحرفین ، وقد قیض الله لھم شیاطینھم قرناء
لھم لھذا الغرض .
تابع ......